موسم الدخول إلى الخارج

ارتبط مفهوم الهجرة بانتقال الجسد من حيّز جغرافي إلى آخر يتمايز عنه في الطبيعة والمناخ والثقافة والتفكير والسلوكي الاجتماعي.. غير أن ال...

ارتبط مفهوم الهجرة بانتقال الجسد من حيّز جغرافي إلى آخر يتمايز عنه في الطبيعة والمناخ والثقافة والتفكير والسلوكي الاجتماعي.. غير أن الثورة المعلوماتية أعادت تشكيل مفهوم الهجرة وفق ما وفّرته تقنيات الاتصال والتواصل من عناصر تكنولوجية، فصارت الهجرة لا تعني الجسد فحسب، بل صار في الإمكان "ممارسة" الهجرة بالفكر والمشاعر والمخيال دون أن يغادر الجسد مقامه.

هي هجرة بلا "فيزا" وبلا جواز سفر وبتكاليف غالبا ما تكون رمزية، هجرة إلى ثقافات ملوّنة وبيئات منوّعة والتواصل المباشر مع أناس تتعدّد ألسنتهم وطرائق تفكيرهم وفنون تعاطيهم للحياة. إنها الهجرة الافتراضية التي أتاحتها الانترنت وصار ملايين المواطنين العرب يمارسونها يوميا، فمنهم من يهرّب أحلامه وآماله إلى الفضاءات التي تستجيب لرغباته، ومنهم من يدفع بهمومه وكوابيسه إلى مساحات لا تضيق.. ومنهم من يزرع آراءه وأفكاره في المواقع التي تحتفي به وتتفاعل مع منتجاته.. ولكل رؤية ودافع وهدف.

ليس مهما الإجابة على السؤال: هل تُغيّر الهجرة الافتراضية من واقع المهاجر وتفاصيل يومياته؟ فالإجابة معقّدة وتتشعّب في تفاصيلها، فهي تتعلّق بالقدرة على اعتبار الانترنت "عوالم" للاستثمار المعرفي والعلمي والإنساني، أو اعتبارها منفذا للهروب أو وسيلة "لقتل الوقت".. كما تتعلّق الإجابة بالوعي الذي يعتبر الانترنت "عوالم" لاستغلال الإنسان وتحويله إلى وعاء قابل للاستفراغ وإعادة التشبيع، تبعا لدرجة حصانته -الانسان- الثقافية والدينية وعمق نظرته الاستشرافية وغيرها..

الأكيد أن الهجرة الافتراضية هي دخول إلى الخارج.. خارج قد يكون بريئا ولكنه في الغالب ملغوم ومزروع بقنابل موقوتة تعرف زمن انفجارها. وإن يكن صحيحا أن الهجرة الافتراضية تتيح للإنسان أن يتنشّق أكسجين الحرية الإلكترونية وتجعل منه وسطا إنسانيا متفاعلا مع أحداث عالمه، فإنها بالمقابل تحاول أن تصنع منه "المواطن العالمي" في "القرية الصغيرة" وتمنحه حقّ "التّعري" ونشر غسيله الداخلي على حبال لا يعلم من أين تبدأ ولا إلى أين تنتهي.. فأي أيد، تلك التي " تحاول أن تصنع المواطن العالمي في القرية الصغيرة" ولأي غاية وبأي ثمن؟. إنها الأسئلة التي تطارد أجوبتها ولا يتلفت إليها المبحر في الإنترنت، وكأن هذه الانترنت هبة ربانية "خُلقت" لإسعاد الناس وخيرهم وفقط.

إن تكن الهجرة بالجسد تلهب في صدر المهاجر نيران الشوق والحنين للوطن وتقوّي فيه جذور الارتباط بمنبته وتؤصّل فيه عناصر الانتماء لبلده وأمته.. فإن الهجرة الافتراضية قد تجعل من التّنكّر للانتماء الوطني شرطا للقبول بالمهاجر "مواطنا عالميا في القرية الصغيرة".

إن أجيالا قادمة محكوم عليها بممارسة الهجرة الافتراضية منذ نعومتها، بلا بوصلة ولا تقاليد إبحار، وربما بقابلية كبرى للاستفراغ وإعادة التشبيع.. والخشية كل الخشية أن يكون "الدخول إلى الخارج" لعبة قذرة من جملة الألعاب القذرة التي نستوردها أو تُهدى إلينا مُغلّفة بمعاني إنسانية ومفاهيم سامية.. فربما ينام في جوهر كل معنى إنساني - نستورده أو يُهدى إلينا- شيطان، إذا لم نستشرف وجوده ونلعنه بوعينا سيقود كل داخلنا إلى الخارج.. ولكن بأياد نظيفة، هي أيادينا.